شرح حديث يا معاذ إني أحبك
هذا الحديث معروف بأنه المسلسل بالمحبة، فكل راوٍ من رواته قال إني أحبك
عن معاذ - رضي الله عنه: أن رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده، وقال: " يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ» فَقَالَ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَة تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ». رواه أَبُو داود بإسناد صحيح
- الشرح
معاذ بن جبل
قال عبد الله بن مسعود: «إن معاذ بن جبل، كان أُمة قانتًا لله حنيفا، ولم يك من المشركين»
وذلك أن النبي قال أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ، ويأتي يوم القيامة يتقدم العلماء برتوة، ومعاذ كان يُعتبر بعثة تعليمية متنقلة، ولقد أقامه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن يعلمهم الإسلام، وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه كتب زيد من الشام إلى أمير المؤمنين عمر: إن أهل الشام في حاجة إلى من يعلمهم دين الإسلام، فأرسل إليه معاذ بن جبل.
أن رسُولَ اللهِ أخذ بيده
هذا يدل على مزيد عناية، وتهيئة وحضور قلبه لما سيوصيه بعده.
«يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ»
النبي ﷺ أصدق الخلق، ومع ذلك يحلف له أنه يحبه، والمحب لا يدخر لحبيبه إلا ما هو خير له، وأكد القسم بعدة مؤكدات:
بحرف القسم الواو، والمقسم به، و(إني) التي تدل على التوكيد، ولام القسم الداخلة على الجواب.
وإنما قال هذا له لأجل أن يكون مستعدا لما يلقى إليه لأنه يلقيه إليه من محب.
أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَة تَقُولُ:
أُوصِيكَ: الوصية هي الطلب، طلب الفعل، أو طلب الترك المؤكد.
والمحب لابد أن ينصح المحبوب، ويحرص عليه، والأنبياء قد جمعوا الأوصاف الأربع التي يحصل بها كمال النصح:
الأولى: الفصاحة والبيان: فهم أعظم الناس بيانًا.
الثانية: الحرص على الهداية: فهم أحرص الناس على مصلحة المنصوح، وأشفقهم عليه.
الثالثة: الصدق: فهم أصدق الناس قيلًا، ومن أكثر الأسباب التي بها تصل النصيحة الى القلوب، الصدق.
فقد روي عن عمر بن ذر أنه قال لوالده يومًا: " يا أبي، مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟" فقال: "يا بني، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة."
الرابعة: العلم، والأنبياءﷺ أكمل الخلق علمًا ومعرفة.
لذا فالنصح منهم يكون أكمل النصح، وأعلاه، وأنفعه.
اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ
قال ابن القيم: الذكر والشكر تدور عليهما قاعدة الدين، فالدين والعبادة بين ذكر وشكر.
أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ: الإنسان إذا أعين على ذكر الله بالقلب بالخشوع، ومحبة الله والخوف منه، واستحضار عظمته؛ وكذلك الذكر باللسان، من تسبيح وقراءة قرءان وحمد، وأعظم الذكر الذكر بالإيمان والتوحيد.
فقال الله تعالى { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } (النساء: 103)كل شيء يقرب إلى الله فهو من ذكر الله.
وَشُكْرِكَ: اذا أعين الإنسان على الشكر بالقلب واللسان والجوارح، فقد أعين على تحقيق العبودية لله بأقسامها وفروعها مما يتصل بالقلب واللسان، والجوارح.
فشكر بالقلب باستحضار نعمه وآلائه الظاهرة والباطنة، وشكر باللسان بالثناء على الله، وحمده، وشكر بالجوارح بإعمال هذه الجوارح والنعم التي أفضاها الله عليه بما يرضيه، إما أن يقوم بالعبادات ابتداء، وإما أن يكون ذلك شكرًا لنعم الله التي لا تحصى ولا تعد؛ فكم من نعمة لله علينا وكم من نقمة اندفعت عنا فنشكر الله على ذلك، ونسأل الله أن يعيننا عليه.
وقوله: " وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " أي: إذا ارتقى العبد في ذكر الله وشكره، مخلصًا لله سبحانه، متابعًا لسنة النبي، فقد وصل إلى أعلى مراتب العبودية، وهي مرتبة الإحسان: فيعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهذه المرتبة هي التي من أجلها ابتلى الله الخلق، كما قال الله {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] فخلق الموت والحياة من أجل الابتلاء في إحسان العمل، فهذا هو المطلوب الأعظم، والمقصود الأكبر أن يصل الإنسان إلى هذه المرتبة، وهي مرتبتين: أعلاها أن يتعبد كأنه يرى الله، والثانية دونها، وهي أنه يستشعر أن الله ينظر إليه، وأن الله يراه.
إذًا المراتب ثلاث:
الإسلام، وهو الأعمال الظاهرة.
والإيمان وهو انقياد الباطن وإقراره.
والثالثة: الإحسان: فلا يقف العبد عند استسلام الظاهر، وإذعان الباطن، وإقرار القلب، بل يصل إلى مرتبة يصير بها كأنه يرى الله، وتصير أحوال العبد وحركاته وسكناته كلها في غاية الأدب مع الله في حال الخلوة والجلوة، وتكون أحواله في السر والعلن سواء في الإستقامة.
وإذا كان الإنسان أمام المخلوقين يتأدب، ويراعي تصرفاته، خاصة إذا كان أمام أمير أو شيخ أو داعية مشهور فإنه يكون أكثر حرصًا وأدبًا؛ فكيف بالله -تبارك وتعالى-؟ ولله المثل الأعلى؛ واذا حرص الإنسان على ذلك، صار له الاستسلام الكامل والإذعان الكامل، والاستحياء من الله حق الحياء بأن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وحفظ الجوارح، فلا يتكلم إلا بما يجمله؛ لأن الله يسمع ويرى، ولا ينظر إلا إلى ما يرضي الله؛ لأن الله يراه، ولا يمشي، ولا يأخذ ولا يعطي، إلا حيث يرضى الله عن أخذه وعطائه ومزاولاته وتصرفاته هذه مراتب عالية.
وهنا فائدة: لم يقل: وكثرة عبادتك؛ لأن الكثرة قد تكون كغثاء السيل، وكما في الحديث عن الخوارج: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقيامكم مع قيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، والمولى سبحانه يقول: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ، ليس أكثر، فالنتيجة ليست بالكثرة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كره الكثرة؛ لأنها قد تؤدي إلى الملل ثم العجز.
الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ورد عليه السلام وسكت، وكأن الرجل وجد شيئاً ما كان متوقعه، قال: (ألم تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا، قال: لقد تغيرت عما رأيتك من قبل، قال: مذ فارقتك لم أفطر يوماً! قال: أجهدت نفسك، صم وأفطر)، وقال لعبدالله بن عمرو بن العاص: (صم من الشهر ثلاثة أيام، قال: أطيق أكثر، قال: صم كذا، صم كذا، إلى أن جاء إلى صيام نبي الله داود) ، أخذه وبعد ذلك عندما كبر ثقل عليه، وقال: ليتني قبلت رخصة رسول الله من كل شهر ثلاثة أيام
فإذا أعين الإنسان على هذه الثلاث، الذكر والشكر وحسن العبادة فقد بلغ أرقى مراتب العبودية، وهذا الدعاء من جوامع الدعاء، لذا قال شيخ الإسلام لما تأمل أنفع الدعاء وأجمع الدعاء وجده في هذا.
#أم_مارية_الأثرية
#شرح_رياض_الصالحين
موقع الدكتورة آلاء ممدح محمود